فشل الحكم الذاتي في العالم: كتالونيا نموذجا
بقلم: السيد حمدي يحظيه
تعتبر كتالونيا، الإقليم " الأسباني" أكبر وأصدق نموذج لفشل الحكم الذاتي.. فهذه المنطقة تتمتع بسلطات تجعل من يدخل إليها لا يلحظ من وجود أسبانيا ما عدا علم صغير على بعض البنايات يرتفع إلى جانب علم كتلاني كبير. أما الأقتصاد والأستفادة من الثروات فلا يوجد أثر لأسبانيا ما عدا الضرائب التي تذهب إلى مدريد، لكن تعود إلى كاتلونيا على شكل ميزانية.. ورغم هذه الأمتيازات ثارت كتالونيا على الحكم الذاتي وأرادت الأنفصال.. يعني ثارت على " بحبوحة" الحكم الذاتي..
لذين يبشرون ويغنون ويرقصون لما يسمى نظام الحكم الذاتي في العالم أصبحوا كمن يملأ قربه بالهواء وويمضغ الماء . بمعنى آخر، لو انتبهنا لما يجري الآن في العالم- العالم كله- أخر نموذج كتالونيا- لاكتشفنا أن الحكم الذاتي كان دواءا مهدئا لتنويم وعي بعض الشعوب، ومع الوقت انتهت صلاحيته ومدة استعماله فاستفاقت تلك الشعوب التي كانت منومة وثارت على على التنويم الأصطناعي. الآن لا احد يؤمن بكذبة ما كان يسمى الحكم الذاتي. هذا النوع من الحكم كان نظام حكم مفروض بالقوة من طرف قوى كبيرة ضد شعوب صغيرة، ثم، حين انتهت سلطة العصا والمسدس والقمع، تلاشى ما كان يسمى الحكم الذاتي. فالحكم الذاتي في كل البقاع التي كان يُمارس فيها كان فقط مفروضا بالقوة ضد إرادة شعوب صغيرة مغلوبة على أمرها؛ أي أنه كان استعمار في شكل حديث بمسمى آخر لطيف، خفيف يحاول أن لا يجرح ولو بشعرة مشاعر تلك الشعوب علنا، وفي اللغة المحلية لتلك الشعوب المغلوبة على أمرها كان ذلك النوع من الاستعمار( الحكم الذاتي) عبارة عن ذئب يلبس جلد خروف. فجوهر الحرية يكمن في السيادة على الأرض والثروات، وفي غياب السيادة ينتفي أي نوع من الحرية، وكتحصيل حاصل فإن الشعوب التي كان يُمارس عليها الحكم الذاتي لم تكن تتمتع بأي نوع من السيادة، وكانت، في داخلها، تحس أن قوة ما تحتقرها: قوة تنهب ثرواتها، ترسل أبناءها للحرب، تخطط لها سياستها الخارجية، وبالتالي فإن أي نوع- ابسط نوع- من الحرية والكرامة كان معدوما. إذن، حين يتم منع شعب ما من هذه الامتيازات (السياسة الخارجية، التصرف في الثروات، عدم معارضة الحرب إلخ) وتنزع منه بالقوة لا يبقى له من السيادة إلى الفتات والعظام وأنتخابات شكلية لا تنفع وثقافة ولغة تندثر مع الوقت.
فأول دولة كبيرة حديدية كانت تفرض نوعا من الحكم الذاتي بمسمى آخر في العالم هي الاتحاد السوفياتي السابق غير المأسوف على تفككه. كان هذا الاتحاد بعبعا كبيرا وغولا يضم تحت جناحيه، باسم الحكم الذاتي، أو نظام يشبهه، الكثير من الشعوب الضعيفة التي قهرها بالقوة وفرض عليها نظرية الحكم الذاتي. ثم فجأة استفاقت تلك الشعوب لتكتشف أنها لم تكن تعيش بحرية إنما تحت استعمار مغلف بالصوف. تحطم كل شيء وتحول إلى لا شيء كأنما لم يكن في يوم من الأيام.
حين ننظر اليوم إلى خارطة الشعوب الصغيرة التي لازال يُطبق عليها الحكم الذاتي وهي قليلة نجد أنها غير راضية البتة، أكثر من ذلك تشعر أنها محتقرة ومستعمرة وتضغط عليها قوة كبيرة. لنذهب إلى أية زاوية من الكرة الأرضية يطبق فيها الحكم الذاتي سنجد أنها فيها اضطرابات وثورات وتقف، كلها، على فوهة بركان.
النموذج الأسباني مآله الفشل
قبل إن نخوض في النموذج الأسباني للحكم الذاتي يجب أن ننبه إلى نقطة مهمة وهي إن هناك فرق جوهري بين الفيدرالية والحكم الذاتي: الفيدرالية هي فقط لتسهيل تسيير دولة كبيرة ذات مساحة شاسعة، لكن تشترك كلها في لغة واحدة، ماضي واحد، مستقبل واحد، وسياسة مركزية واحدة، لكن يتم ترك لها التسيير المحلي لشئونها (المانيا والصين نموذجا). أما الحكم الذاتي فهو نظام يتم فرضه على إقليم مدمج بغير إرادته في بلد كبير بالقوة أو بالجغرافيا أو بالتاريخ (أسبانيا نموذجا).
في السنوات الأخيرة، منذ التسعينات، ثارت الشعوب التي كانت " تتمتع"ب\ يُفرض عليها الحكم الذاتي على ذلك النوع من النظام لعدم فعاليته. أكبر مثل على فشل الحكم الذاتي هو اندثار الاتحاد السوفياتي السابق وتشرذمه. ابتداء من تفكك هذا الأخير بدأت الشعوب الأخرى الواقعة تحت كذبة الحكم الذاتي تثور: ارتيريا التي ثارت على حكم ذاتي منحته لها الأمم المتحدة رغم أنف اثيوبيا، وحصلت على استقلالها سنة 1993م. تيمور الشرقية رفضت الحكم الذاتي الذي منحته لها الأمم المتحدة سنة 1999م وثارت عليه حتى استقلت سنة 2002م. جنوب السودان الذي كان منطقة "تتمتع" بالحكم الذاتي ثارت عليه وناضلت حتى حصلت على استقلالها سنة 2011م. في العراق أيضا يناضل الأكراد- رغم "تمتعهم" بالحكم الذاتي- من اجل الحصول على استقلالهم عن العراق، وأخيرا كتالونيا.
وإذا كانت المناطق التي كانت مفروض عليها الحكم الذاتي، مثل التي ذكرنا، قد رفضته وانتزعت استقلالها فإن ما تبقى في العقد سينصرم لاحقا. ففي أسبانيا، مثلا، التي كانت نموذجا "لنجاح" الحكم الذاتي لم يكن الأمر كذلك. فالشعب الباسكي والكتلاني لم يسكتا أبدا عن حقهما في الحرية، وظلا\ لازالا يطالبان بتقرير المصير التام في كل المناسبات. بالنسبة للشعب الباسكي امتشق السلاح وحاول الوصول إلى الاستقلال بالبندقية، ثم، أخيرا، حوَّل الكفاح المسلح إلى كفاح سلمي وهو اليوم مصر أكثر من الماضي على نيل الاستقلال، أكثر من ذلك هناك تنامي لظاهرة كره الأسبان في الإقليم المذكور.
بالنسبة لكتالونيا، هي الأخرى إقليم فُرض عليه الحكم الذاتي بالقوة والجغرافيا في إطار أسبانيا قوية في الماضي. ورغم أن كتالونيا لم تلجأ إلى القوة إلا أنها، في داخلها، لا تفتأ تطالب بالاستقلال وتلح عليه. ورغم إن أسبانيا مدريد، المركزية كانت تمتدح كتالونيا كنموذج لنجاح الحكم الذاتي إلا أن السحر في الأيام الأخيرة انقلب على الساحر: أعلنت كاتلونيا أنها ستنظم استفتاء في غضون أربع سنوات يقرر فيه الشعب الكتلاني، بصفة نهائية، مصيره وينفصل عن أسبانيا. والانتخابات الأخيرة في كتالونيا- 27 سبتمبر 2015م- هي نموذج لفشل الحكم الذاتي في ذلك الإقليم..
والنتيجة أن نظام الحكم الذاتي حُكم عليه بالفشل في العالم كله ولم يعد أحد يؤمن به او يعتبره.
وإذا كان الحكم الذاتي قد أثبت فشله وعدم فعاليته وعدم مسايرته للواقع وللديمقراطية، وثارت عليه الشعوب التي كانت "تتمتع" به فإن أغرب ما يحدث إن تأتي دولة الآن، مثل المغرب، ونحن في القرن الواحد والعشرين، لتقترح على الصحراويين والأمم المتحدة حكما ذاتيا. فإقليم الصحراء الغربية الثائر، غير المندمج لا تاريخيا ولا جغرافيا ولا سياسيا هو الإقليم الوحيد في العالم الذي لا يمكن إن يطبق عليه الحكم الذاتي. إن الذي يجب أن تؤمن به المملكة المغربية هو أنها جاءت متأخرة كثيرا لمسرح الوقائع لبعض الأسباب الوجيهة:
- الصحراء الغربية لا يمكن إن يطبق فيها الحكم الذاتي لأنها، عكس الباسك وكتالونيا، لا يوجد منطق لا جغرافي ولا تاريخي ولا سياسي ولا ثقافي يفرض أن يُطبق فيها الحكم الذاتي.
-
- اقتراح الحكم الذاتي على الأمم المتحدة من طرف المغرب ليتم تطبيقه في سنة 2007م هو أشبه بنكتة، فالأمم المتحدة كانت قد حاولت إقناع عدة شعوب من قبل بقبول الحكم الذاتي (ارتيريا، تيمور الشرقية، جنوب السودان) لكن شعوب هذه البلدان رفضته.
-
- نظام الحكم الذاتي في أسبانيا الذي يفتخر به المغرب ويقول انه ناجح، ويريد تطبيق مثله في الصحراء الغربية، بدأ يفشل، وأخر دليل على ذلك الفشل هو قرار كتالونيا بالانفصال عن أسبانيا