مقال : فرض الوجود اولا

 
لاحظت في الاونة الاخيرة رغم ما يبدو من افق واعدة ومكاسب متراكمة يعول عليها لافتكاك النصر ، الكثير من زرع الشكوك والتبخيس بمقومات الصمود والمقاومة، "تمراك لصباع" من كل شيئ وطني ، والمخجل انه يأتي احيانا من من يفترض انهم وطنيون لانهم عانوا وناضلوا لأجل وطنهم كبقية افراد هذا الشعب الذي لم يسلم منه اي فرد من المعانات متذرعين في ذلك بعدم وجود الديمقراطية وفساد القيادة وخراب المؤاسسات والقبلية وما الى ذلك، حتى سموّنا المخزن ، وتبعا لذلك من الطبيعي ان يكون هناك من لا يرضيه ذلك فيرد كل بطريقته المتاحة، حيث تتم المواجهة بين من يمدح ومن يقدح بما هو لائق وغير لائق ، ولا أرى فائدة لهذه المواجهات العقيمة ونحن لا نحسد على ما نحن فيه من ارض محتلة وشعبها مشتت، وما احوجنا الى جمع الجهود بدلا من بعثرتها وتشتيتها، ومن ذلك تبينت لي ضرورة توضيح بعض الامور التي لها علاقة بعمق مسيرتنا التحريرية حتى لا نهدر وقتنا وطاقاتنا في "ما لا يعنيه."
وحتى نكون في مستوى مسؤولياتنا التاريخية وما يليق بنا كأصحاب قضية مصيرية وما يتطلب ذلك من روح مسؤولية وموضوعية يجب ان نبتعد عن سبّ بعضنا والتلاكم الكلامي الغير مجدي وبدلا من ذلك نصب جام غضبنا مجتمعين على من ظلمنا واغتصب وطننا وشتت شعبنا، و أن لا ننشغل بانفسنا عبثا، فالنضال والكفاح حق وواجب للجميع لا حكر فيه، بغض النظر عن الخصائص وعاملي الزمان والمكان ، وليس بمقدور احد سد سبله امام اي مواطن فكل من موقعه حسب جهده يبذل جهدا يصب في الجهد العام والحكم الفصل الذي يوشح ويلقي الاوسمة هو الميدان النضالي والشعب، فمن تكرم على الوطن كان كريما ومن بخل بخل على وطنه، إن تاب احسن وان تمادى يحمل وزره على ظهره وحده امام شعبه ووطنه وامام الله، والحكمة في ان لا ننشغل الان بمن تقاعس وانما نتناساه لعله "يحشم".
اما الانشغال ببعض مناحي الضعف في دولتنا الفتية والذي يجب ان نعمل على علاجه واجتثاثه ان امكن ، لا ينبغي ان نتوقف عنده لانه امر عابر فمكونات دولتنا الان ليست هي تلك التي ستكون في المستقبل على ارض وطننا المستقل وان كانت تمثل نموذجا لبناء تلك الدولة التي نطمح لها، وذلك لاسباب ابرزها:
ـ هي قبل كل شيئ ادارة حرب ومن يدير الحرب ليس من الضروري ان يتقن فنون ادارة السلم ، والحرب لا تزال قائمة.
ـ ادارة مقاومة في المنفى تسيير مخيمات لاجئين تقتات من المساعدات الدولية على ارض اجنبية مستعارة للمقاومة .
ـ ادارة تدبير شأن بعض من الشعب وليس الكل تفتقد لمقومات الارض والاقتصاد وبعض مقومات السيادة الاخرى.
وعليه فهي ليست الادارة الحقيقية للجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية على ارضها الحرة المستقلة، لا من حيث المسييرين ولا الاساليب ولا الوسائل والامكانيات ولا الظروف الموضوعية والذاتية. (لا اتحوصُ اعظم من اعشاكم) يا ناس ،"ام اتوامة اتسابك".

هذه ادارة الجبهة الشعبية التي تقود كل الشعب بكل فيئاته بشتى الوانها ومختلف عقلياتها بما في ذلك من تاجر وطالب وعامل ومنمي وحرفي الى غير ذلك ، من اجل هدف واحد هو الاستقلال ليس إلا.
ومن بيان ذلك وللتنبيه فقط فهذه الادارة لن تتولى التسيير الاداري بعد الاستقلال لأن الجبهة ستحل نفسها بعد اول مؤتمر شعبي عام في الاستقلال ويفتح المجال واسعا للتشكيلات المختلفة والاحزاب لتأخذ مكانتها السياسية والادارية في الجتمع. وهذا واضح في ادبياتها، ومن لديه فكرة او مشروع في التسيير مقتنع به من الافضل ان يدخره الى ذلك الحين ليكون في محله.

اذن الجبهة مهمتها الاساسية هي التحرير وهي لا تتقن سواه ومن الطبيعي ان تكون لها هفوات في مجالات خارج اختصاصها الرئيسي ، وبما انها ادارة حرب ومهمتها قائمة ولم تستكمل بعد ، فنحن لا نستطيع محاسبتها الا على نجاحها او فشلها في مهمتها تلك (التحرير فقط) وما عدى ذلك من مأخذ فهو سابق لاوانه، فحذاري من التسرع فالعجلة زلة، ولولا العجلة "ما قص حد".
هذا لا اقصد به التغاضي عن مناحي الضعف واهمالها ولكن لابد من اولويات في كل اسراتيجية، وانجاز المراحل حسب اولوياتها ضروري ، وتجنت التخمة والخلط في البرمجة والتركيز على الاهم قبل المهم لابد منه، حيث يكون ضمان الوجود قبل كل شيئ بمشاركة الجميع مهما اختلفت الاراء والافكار والتوجهات السياسية (نفرض الوجود بالكم ومن ثم نتفرغ لخلق النوع المطلوب دونما اقصاء) "ما انعودو الطفلة اللي يسبكوها احوالاها". لا اعني بذلك الدفاع عن اشخاص فهم لا وزن لهم في ميزان القضية الوطنية، وانما اركز على ان نبقى موحدين كلنا على فكرة تحرير الارض وضمان الوجود قبل تطوير او استكمال مؤسساتي او ضخ افكار او وضع لون سياسي معين ، لان الالوان كثيرة والاذواق متعددة ، وتبني لون ما يعتبر تحيزا لأحد مكونات المجتمع ، وبالتالي اقصاء لغيره وهو امر غير منصف وغير مقبول اطلاقا ، والفصل في امره للشعب وليس من المناسب ان نخوض في امور سابقة لأوانها كهذه، ننشغل بها عن تحرير وطننا ونتصارع بيننا خارج مهمتنا الوطنية المحددة التي لا غبار عليها وندخل في دوامة صبيانية وضبابية لا طائل من ورائها لم يحن وقتها بعد "تيبات"، ونبقى ندور في حلقة مفرغة لا نهاية لها "اعش الجرو يلحك من عزة فاش اكب"، كما جرى لغيرنا من قوى تحريرية في بلدان اخرى وما ترتب على ذلك من متاعب دفعت بلدانهم فاتورتها غاليا، وذلك ما يريده لنا العدو "اوحلنا افروصنا"، "او ذاك من زين لخلاك احنا صايبين عنو".
المهم هو فرض وجود دولة كل الشعب الصحراوي على ارضه بغض النظر عن لونها، لان لون الدولة وبناء موسساتها وتطويرها هي مهمة البناء في الاستقلال ، أما التحرير فهو المهمة الآنية الملحة ولا ينبغي ان يكون على حسابها اي هم اخر لا الديمقراطية ولا الاصلاح ولا هم يحزنون، وتصارع الافكار للوصول الى الاصوب والاحسن في التسيير والتنافس على السلطة وعلى احسن السبل لتطوير البلاد وتفعيل المكونات الوطنية تلك مهام مؤجلة الى ما بعد الاستقلال بأحكام التفصيل التكتيكي الاستيراتيجي لتفادي الخلط في المهام الذي يسبب الارتباك والفشل وضياع الاولويات.
كما ان ذكر بعض الانقاص حتى ولو كانت صحيحة في الاوقات الخاصة قد يكون احيانا حق يراد به باطل فلا يساعد على النصر وانما يصب في الصف المعادي ويساعد العدو ولو بصورة غير مقصودة، وخاصة افشائها في غير محلها على شبكات التواصل الاجتماعي ليراها من هب و دب، هدية للعدو يتسلح بها لاضعافنا "النصح في الجمع خديعة".
وهناك من يطالب الجبهة باتباع سلوكات نخبوية معينة! يا اخوة نحن لسنا حزبا سياسيا نخبويا ومن يظن ذلك فهو لا يفهم جبهة البوليساريو التي هي جبهة تحرير تجمع كل القوى الوطنية الحية دون ما استثناء وبغض النظر عن الميولات السياسية، ومن لا يفهم فاليتعلم قبل ان يدلي بنقد هدام ، لكن المصيبة ان يقرأ بعضنا كتبا ويحصل على حزمة من الشهادات ويخيل له انه اصبح ملمّا بكل شيئ من لحظته وهو لا يزال جاهلا بكثير من الامور التي لا تعلم الا من باب التجريب العملي الميداني ، فيصبح يهذي و"يذري" معتقدا انه مهتدي "امنير" في مجال يجهله، فعليه ان يهتدي قبل ان يضلل الاخرين وهو يحاول الاهتداء.

ينصحون القائد او القادة بما لا يفهمون هم انفسهم ، مستدلين بكلام عام وافكار ملّها مبتكروها، ذلك في احسن الاحوال ، مثل هؤلاء يجهلون الكثير، الله يهديهم والجاهل لا يقود ولا ينصح ولا يحتذى برأيه حتى يتعلم وينضج.
وهناك من يحاول تكبيل الناس حتى لا يدافعوا عن قضيتهم بسخافات من قبيل النفاق ، الدفاع عن القيادة، "صفاك" الى اخره ، كلام تفوح منه رائحة نتنة، نقول لاصحابه: نحن نناضل من اجل الاستقلال وفقط الاستقلال ، بدون قيد او شرط ولا نبتغي من وراء ذلك اية غاية خاصة. نناضل بالكلمة والعرق والدم والمعانات بشتى اصنافها ولا نبالي ، ومن يناضل لا يشترط لنفسه شيئا لانه لا يعول عليها. اقترح على هذا النوع من الناس ، عافاهم الله ان يشاركونا في النضال بافراحه واتراحه كما هو مفترض ويتركونا نسير، ومن كان مؤمنا بهذه القضية فليفعل خيرا او يصمت وليعلموا ان القافلة تسير... رغم المحن. واذا كانت لديهم افكار جيدة مخالفة لما هو حاصل كما يدعي بعضهم فلينخرطوا في النضال ضمن الشعب ويُقنعون الناس بافكارهم النيرة والجيدة، فإن كانت كذلك يتبناها الشعب ، وإلا "خلوها كيف عيش فندي ال ما يدم اخليه بادام" وليعلموا ايضا ان النصر آت باذن الله ، وما على من تعب وتقاعس إلا الانتظار الى حين ، فان هذا شعب، شعب كريم لكنه لن ينسى. خاصة لن ينسى أولئك الذين اعطوا و لم يأخذوا ، ولم يتقاعسوا لحظة واحدة، ضحوا وناضلوا ولم يشترطوا علينا سوى الوفاء بالعهد و"منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا"، هؤلاء ازفُّ لهم تحية تقدير واحترام وعرفان بالجميل ونسأل الله حسن الخاتمة.
وهنا أنبه على انه ليس صعبا على المرء ان يصنع خيرا في حياته، لكن الاصعب هو ان يصنع الخير طول حياته، ولا بأس في من صنعه مرة او مرات ولم يتبعه بالمن والاذى .
ولا يفوتني ان اوضح ان الافكار التي وردت في هذا المقال لا أعني بها احدا بعينه وانما تواجه افكار وظواهر سائدة تشكل عثرة في طريقنا التحريري و هي عبارة عن مزيج من اخطائنا و عمل العدو الموجه ضدنا والذي يستغل كل كبيرة وصغيرة لتدميرنا، "لا إيحوزها حد الراصُ" ان لم تكن هناك "اعظام". ومن هنا استسمح وبصدق من يخالفني الراي من الوطنيين الشرفاء. وما هذا الا رأي نابع من قناعتي بضرورة الحفاظ على ركائز المقاومة التي لا غنى عنها لاستكمال المسيرة التحريرية التي هي مسالة حياة او موت بالنسبة لنا، ولا يخفى على احد ما كلفتنا وما ستكلفنا لاحقا، وما يستلزم ذلك من استعداد لمزيد من العطاء في ذلك السبيل.

نحن محكوم علينا من موقع المسؤولية وحكم التاريخ والوفاء بالعهد الذي قطعناه على انفسنا امام الله والتاريخ والشعب ان نفنى في هذه القضية بغير رجعة حتى يتحقق النصر او نلحق بمن تعاهدنا معهم ، ومن يعيب علينا ذلك نقول له: لا خير في من لا عهد له وعيب الدار على من بقى في الدار.
بقلم: محمد فاضل محمد اسماعيل

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق