مقال : اتحاد مغاربي للشعوب



بقلم الكاتب : ماء العينين لكحل

كثر الحديث مؤخرا عن ضرورة إحياء وإعادة بناء "اتحاد المغرب العربي" بعد أن طال تعثره، غير أن النقاش لازال يتناول كل شيء في هذا الإتحاد، وفي دوافعه، وأهدافه، بل وحتى الأسس التي يجب أن يؤسس عليها. كما أن النقاش طال حتى وجهات النظر حول التسمية الأنسب لمثل هذا الإتحاد. فهل يجدر بالدول الأعضاء أن تغير الإسم ليصبح "الإتحاد المغاربي"، حتى لا يتم إقصاء المكون الأمازيغي في المنطقة؟ وهو الذي يعتبر أحد أهم المكونات الثقافية والإثنية المشكلة للنسيج البشري المغاربي. ثم ما هو الموقف الذي يجب اتخاذه بخصوص الصحراء الغربية؟ هذا البلد المعترف به من طرف الأمم المتحدة كبلد لم تتم تصفية الإستعمار منه بعد، وبه شعب معترف به في قرارات وأدبيات الأمم المتحدة باسم "شعب الصحراء الغربية" أو "الشعب الصحراوي"؟ وما هي الأسس السياسية، والقانونية، والمبادئ الإنسانية العامة التي يجب اعتمادها أساسا لهذا الإتحاد؟ وهل يمكن حقا بناء اتحاد مغاربي يخدم شعوب المنطقة مع اعتماد منطق الإقصاء لشعب وبلد بأكمله، أو لعنصر من العناصر الإثنية أو الثقافية المكونة لإحدى البلدان مهما كانت الأسباب والمبررات؟

كل هذه الأسئلة وغيرها كثير يمكن تلخيصها في سؤال واحد وبسيط، لكنه يحتاج للكثير من التروي والجهد للإجابة عليه من طرف جميع المغاربيين، ويمكن تلخيصه في التساؤل حول ماهية الأسس الصحيحة التي يجب أن نبني عليها اتحادا مغاربيا للشعوب، وليس اتحادا صوريا بقرارات سياسية من الأعلى، أو لأهداف محض اقتصادية؟
لقد كانت فكرة بناء اتحاد يضم دول المنطقة حلما يراود أبناء البلدان المغاربية منذ الاربعينات مع تصاعد وتيرة مقاومة الإستعمار الفرنسي والإسباني، ولكن الظروف لم تكن قط بالنضج الكافي والضروري لتحقيق هذا الحلم خصوصا مع تولي أنظمة تفتقر إلى الشرط الرئيس لبناء أي اتحاد جهوي: البناء الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان وكرامته وحرياته. لهذا تعثرت كل المحاولات، وجاء تأسيس "اتحاد المغرب العربي" سنة 1989 بعملية قيصرية وبقرار سياسي حاول القفز على حقائق ميدانية تقف حجر عثرة أمام تحقيق هذا الحلم، أهمها تغييب الشعوب عن اتخاذ القرار، وفقدان الشرط الديمقراطي في الأنظمة الموقعة على الإتفاق، واستمرار المملكة المغربية بسط سيطرتها على الصحراء الغربية رغم رفض القانون الدولي والأمم المتحدة لهذا الوضع الذي وصفته الجمعية العامة سنة 1979 في قرارها رقم 3437 "بالإحتلال"، إضافة إلى رفض النظام المغربي احترام ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية التي تعترف بالصحراء الغربية كبلد إفريقي تماشيا مع القانون الدولي، وهو ما كرسته في اعترافها سنة 1984 بالجمهورية الصحراوية، والتي هي حاليا دولة عضو كاملة العضوية في الإتحاد الإفريقي مما أنتج تناقضا غريبا في المنطقة حيث أن دول شمال إفريقيا وفقا للإتحاد الإفريقي تشمل الصحراء الغربية ولا تشمل المغرب (فالمغرب ليس دولة عضو في الإتحاد الإفريقي) كما أن الأمم المتحدة تعترف بالصحراء الغربية كبلد "لا يتمتع بالإستقلال" (أي بلد محتل مدرج في لائحة تصفية الإستعمار 1415)، في حين أن "اتحاد المغرب العربي" و "جامعة الدول العربية" لا تعترفان بوجود الصحراء الغربية كدولة ولا بشعبها في تناقض مع الواقع على الأرض.

وبدلا من مواجهة الحقائق كما هي، وتوصيف العوائق الحقيقية أمام بناء هذا الإتحاد، حاول النظام المغربي دائما، ومعه فرنسا وغالبية الدول العربية، إظهار إشكالية الصحراء الغربية على أنها العائق الوحيد لقيام "اتحاد المغرب العربي"، أو "الإتحاد المغاربي" كما نفضل تسميته، وهذا في نظرنا مغالطة كبيرة يجب الإنتباه إليها. فالمشكل الحقيقي الذي يعترض بناء هذا الإتحاد هو أن مؤسسيه لم يعوا على ما يبدو أنه من المستحيل بناء أي اتحاد من هذا النوع على حساب شعب من شعوب المنطقة، وعلى حساب حقوقه السياسية، وحقه في السيادة على أرضه وفي تقرير المصير. هذا الحق المركزي في ميثاق الأمم المتحدة وفي القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، والذي كافحت كل الشعوب من أجل انتزاعه من الإستعمار الغربي خلال الخمسينات والستينات كما كافحت مؤخرا من أجل تحقيقه حتى ضد استبداد الأنظمة في تونس، ومصر وغيرها من بلدان شمال إفريقيا والدول العربية. لهذا فشلت كل المحاولات رغم الضغوط الفرنسية والغربية الكبيرة التي تريد فرض هذا الإتحاد بأي ثمن لغاية مركزية ترمي إلى تشكيل سوق استهلاكي مغاربي كبير يفوق في تعداده المائة مليون نسمة ستشكل، في نظر فرنسا على الأقل، سوقا واعدا ومرتبطا ثقافيا بها بحكم ماضيها الإستعماري في المنطقة ومصدرا حقيقيا لتعزيز اقتصادها، آملة في التمكن من الإستفادة من الأسبقية في استغلال ثرواته الطبيعية الهائلة.

إذا، نعتقد أن غياب شرط احترام ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي، وأهم من كل ذلك القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، هي العوائق الحقيقية أمام بناء الإتحاد المغاربي، لأنه بدون احترام هذه القوانين الدولية، وبدون إشراك الشعوب عبر مكوناتها المختلفة والغنية، ثقافيا وإثنيا، في بلورة هذا البناء مع احترام حقوقها، واحترام كرامتها، واحترام سيادتها على ثرواتها وخيراتها الهائلة، التي يجب أن تستغل لصالح الأجيال المغاربية للنهوض بالمنطقة وبالقارة الإفريقية التي يربطنا بها نفس المصير سيبقى بناء الإتحاد مجرد فقاعات إعلامية وشحنات عاطفية تحرك المشاعر أكثر مما ترسم حقائق على الأرض. كما أنه وبدون إدراك الإرتباط العضوي بين الإتحاد المغاربي المأمول مع الإتحاد الإفريقي، سنكون قد أضعنا الوجهة مرة ثانية وحكمنا على حلمنا بالسقوط بين براثن الإستعمار الغربي الجديد الذي يبذل كل جهوده حاليا لإعادة السيطرة على بلدان شمال إفريقيا تحت لبوس اقتصادية وسياسية وحتى ثقافية للإستمرار في التحكم في مصائر الشعوب الإفريقية والعربية.

الإتحاد المغاربي والرؤية الصحراوية

منذ بداية السبعينات كان الشهيد الولي مصطفى السيد، مؤسس جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، المعروفة اختصارا باسم البوليساريو، يقول في خطاباته أن شعب الصحراء الغربية لا يرى لنفسه مستقبلا إلا في إطار "اتحاد مغرب الشعوب"، والذي رأى أنه لن يكون ممكنا إلا بعد أن تنجح هذه الشعوب في التحكم في مصائرها، وأن تنجح في بناء أنظمة ديمقراطية تقدمية تخدم مصالحها، وتدافع عن حقوقها وكرامتها وسيادتها.

ففي خطاب له سنة 1976 قال بالحرف: "لن تستقل الساقية الحمراء ووادي الذهب وتبقى تونس مستعمرة، ولن تستقل الساقية الحمراء ووادي الذهب ويبقى المغرب مستعمراً، ولن تستقل الساقية الحمراء ووادي الذهب وتبقى موريتانيا مستعمرة.. لن تستقل الساقية الحمراء ووادي الذهب إلا بزخم ثوري عنيف في المنطقة يغير تغييرات جذرية ويبني أسسا جديدة في المنطقة"، وكانت رؤيته واضحة في ضرورة توحيد شعوب الدول المغاربية ولكن بعد تحرير إرادتها السياسية والاقتصادية.

كما أن المقاومين والمجاهدين الصحراويين ومنذ 1884 وعبر مراحل متقطعة قاتلوا الإستعمارين الإسباني والفرنسي في الصحراء الغربية، وفي جنوب المغرب، وشمال موريتانيا وجنوب الجزائر، وكان تحرير المنطقة برمتها هدفا ساميا تركوا من أجله شهداء في كل هذه المناطق. غير أن هذا لا يعني أن على الشعب الصحراوي وحده من بين كل الشعوب المغاربية أن يتخلى عن حقه في السيادة على وطنه، وأن يضحي بحقوقه الأساسية ويقبل بسيطرة أي كان، حتى ولو كان ذلك في صالح دولة شقيقة مثل المغرب التي لا تريد من الصحراء الغربية إلا ثرواتها الطبيعية الهائلة في حين لا تريد شعبا صحراويا مالكا لقراره السياسي، وهذا ما أكده رفض القصر الملكي القبول بالتحكيم الأممي الذي يحاول منذ سنة 1991 تنظيم استفتاء ديمقراطي وحر لفائدة الصحراويين للإختيار بين الإستقلال بوطنهم، أو القبول باستمرار السيطرة المغربية عليه في إطار حكم ذاتي أو حتى عبر الإندماج.

إن محاولة بناء اتحاد مغاربي مع تغييب الشعب الصحراوي هو محاولة غير واقعية ولن يكتب لها النجاح مثل سابقاتها لأنه لا يمكن تحقيق اي بناء صحيح على أسس غير ثابتة ومنافية للقانون وللحقوق. كما أن مشكل الصحراء الغربية ليس المعيق الوحيد لقيام هذا الحلم بل هناك عدة عوائق أخرى تستحق الإنتباه والمعالجة قبل التفكير في أي بناء جماعي يربط مصائر شعوب المنطقة سياسيا واقتصاديا كما ترتبط مصائرها وجدانيا منذ قرون.

إن أول هذه العوائق، بل وأخطرها على الإطلاق هو هلامية الحدود الجغرافية المغربية وعجز نظام المملكة العلوية عن بناء علاقات ثقة وسلم ثابت مع كل الدول المجاورة لها. فلقد قامت الممالك المغربية عبر العصور بمحاولات متعددة للتوسع على حساب جيرانها، ولم تكن الدولة المغربية الحديثة مختلفة في ذلك عن الأسر الملكية المغربية السابقة. ففي سنة 1963 حاول الحسن الثاني احتلال الجزء الجنوبي الغربي للجزائر في ما عرف بحرب الرمال، ورفضت الرباط الإعتراف باستقلال موريتانيا طيلة السنوات العشر الأولى من استقلال نواكشوط، ولم يحصل الإعتراف إلا بعد أن اضطر الحسن الثاني لتوقيع اتفاقية ثلاثية مع اسبانيا وموريتانيا لتقسيم الصحراء الغربية وشعبها إلى نصفين سنة 1975 ليشنا معا غزوا عسكريا بدعم فرنسي لهذا البلد، وهو التقسيم الذي نتجت عنه مآس عديدة كان أبسطها تشتيت عشرات آلاف الصحراويين الذين لازالوا يعيشون في مخيمات للاجئين منذ 31 اكتوبر 1975، وتقتيل عشرات الآلاف قصفا بالنابالم، والفسفورالأبيض، وقتلا بسلاح الجيش المغربي، ناهيك عن عشرات آلاف ضحايا الإعتقال التعسفي، والإختطاف، والتعذيب، وبخلاصة مأساة إنسانية حقيقية لازالت مستمرة أمام أنظار الأمم المتحدة وبعثتها المعروفة باسم المينورسو، وأمام أنظار كل دول العالم التي تقف موقف المتفرج رغم أن كل المنظمات الدولية بدون استثناء تؤكد استمرار المغرب في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان دون حسيب.

ما يطلب من الشعب الصحراوي الآن هو أن يقف مرة ثانية على الهامش متفرجا على مآسيه، كي تتمكن المملكة المغربية من حل مشاكلها الإقتصادية والسياسية في إطار اتحاد مغاربي مستغلة ثروات الصحراء الغربية دون وجه حق، فهل يقبل عاقل بمثل هذا الطرح؟ وهل يعقل أن يطلب من الضحية أن تتحمل جريمة مغتصبها بل وأن تقبل بأن تمنحه المزيد بالتخلي عن كل حقوقها وأملاكها ومستحقاتها؟

إن بناء الإتحاد المغاربي لا يمكن أن يتحقق ما لم يمتلك المغرب وكل الدول المغاربية الشجاعة الكافية للإعتراف بأنها قد تمادت في ظلم شعب مغاربي شقيق طيلة السنوات الاربعين الماضية بتركه معلقا بين سندان الإحتلال والقمع اليومي من طرف بلد شقيق، ومطرقة التهميش والتجاهل الذي يعاني منه منبوذا من طرف كل البلدان العربية والإسلامية باستثناء الجزائر وموريتانيا وليبيا التي تعترف ثلاثتها بالجمهورية الصحراوية. وبالنتيجة فلا يمكن تصور أي نجاح لبناء اتحاد مغاربي دون حل قضية الصحراء الغربية وفقا للقانون الدولي، ووفقا لاحترام حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير الذي يريده لبلاده. بعدها يمكنه الإنخراط بكامل إرادته ودون أي إكراهات أو ضغوط في هذا الإتحاد الذي يفرضه التاريخ والجغرافيا كما تفرضه المصالح الإقتصادية والسياسية والثقافية والإجتماعية. عندها فقط يمكن التفكير الجدي في تحقيق تكامل حقيقي لشعوب المنطقة ولما لا التفكير في التخلي النهائي عن السيادة الوطنية للشعوب المغاربية الستة للإنخراط في إطار سياسي، أو دولة فيديرالية كبيرة غنية بمواردها البشرية والطبيعية، وبتنوعها الثقافي، والجغرافي الرائع الذي سيعطيها القدرة على قيادة الإتحاد الإفريقي ولعب دور مركزي في مقابلة الشرق الأوسط وأوروبا وبقية القوى الدولية. عندها سيتمكن مواطنو البلدان المغاربية من التمتع بكل الحريات والحقوق المتخيلة في التنقل والإقامة والعمل والإستثمار والتملك وحق المشاركة في الإنتخابات البلدية وغيرها كما يدعو لذلك الرئيس التونسي المؤقت، المنصف المرزوقي، وسيتمتعون بالكرامة، وبالقدرة على صناعة القرار في وطنهم الكبير والتأثير في العالم كمواطنين أحرار وذوي سيادة.

أما استغلال هذا الحلم البديع الذي يراود مخيلة كل مغاربي من المحيط الأطلسي وحتى مصر لدغدغة المشاعر، وللضغط الظرفي من أجل مصالح اقتصادية لهذا البلد أو ذاك، والتغني بالرغبة في فتح الحدود في الوقت الذي يحافظ فيه المغرب على جدار عسكري بطول 2700 كلم مليء بالألغام ومحروس بأكثر من 120.000 جندي مدجج بالسلاح في الصحراء الغربية عازلا نصف الشعب الصحراوي عن نصفه الآخر طيلة عقود، فهذا مجرد ضحك على الذقون، واستغفال جديد للعقل المغاربي الذي آن له أن يثور، وأن يبدأ ثورة جديدة تعلن لجميع الحكام أن الشعب يريد معرفة الحقيقة، ويريد التعرف على حجم ثرواته، وحجم إمكانياته، ومن يسيطر عليها ولماذا. وبعد تفكيك جدار العار هذا الذي يشوهالصحراء الغربية، وبعد تحرير هذا الشعب الصغير من الإهانة ومن سلب حريته، عندها يحق لكل الشعوب المغاربية أن تطالب بالوحدة في إطار حقيقي يمثلها ويعكس آمالها وتطلعاتها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق